شروق الليل
في ساعات الليل الساكنة جلس خالد بجوار خيمته ........ لحظات من الهدوء لم يعرفها إلا في حضن الظلام ....." آه أيها الليل الحزين فلتبق معي أكثرما يمكنك ... لا أجد غيرك لي مؤنسا .... إذا غاب عني الناس ..... وتفرق الأحباب ... تسمع مني ما لا أبح به إلا لك ..... فتحوي أحزاني و تضمها إليك.... فلتبق معي و لاتغيب .. " ...... " ها قد سلمت نفسي إليك فافعل ما شئت ..... لم أعد أمتلك الحلول ..... أعلم أن حديثي معك قد أرهقك ....و لكن إن لم أحكي لك عن معاناتي .... فلا قيمة للكلام بعدها .... تحمل مني ما لا يتحمله غيرك ....... و إن فعلت كما نصحتني و نسيت ..... آه إن النسيان أجمل منحة للإنسان ..... و لكنه يكون للمواقف المحزنة التي مرت سريعا ...... أما مأساتي فهي حكاية عمري ....... مهما حاولت إبعادها عن ناظري ...... فهي تجري في دمي ...... وتعلمني إياها روحي .... و يذكرني بها قلبي "
أقبلت إليه أمه : " يا خالد .... ألن ترتاح قليلا قبل الصباح ..... إن اليوم شاق عليك ....... يا بني ماحدث فوق احتمالك .... لا تكلف نفسك ما لا تطيق....... إن أردت الهجرة فلن ألومك " ..... رد خالد : " لا تظني يا أمي أن ما حدث سيدفعني إلى الهروب ..... لقد علمت أنهم ذهبوا في رحلة التجارة من غيري .....و نفذوا وعيدهم .... لكن غدا ينتهي كل شيء ..... سأجلس قليلا ثم أنام ..... لا تقلقي "
و جلس ينتظر الصباح ساعات طويلة ..... و طالت هذه الساعات أكثر مما ينبغي و زادت الساعات في الطول ..... حتى كاد نهار اليوم التالي ينقضي .... و لكن .... الشمس لم تشرق ...... أمرض أصاب عينيه فلم ير نور الشمس ؟ ...... أم أن حزنه قد نفذ من صدره و جنباته فسد النور عن عينيه ؟ ...... و لكنه مشى في شوارع القرية .... فوجد الناس قد تركت بيوتها و خرجت حائرة ....ماذا حدث ؟ ... الشمس لم تشرق ....... هل الساعة قد قامت ؟ ..... الليل قد خيم على القرية ...... كثرت الأقاويل و انقلبت القرية.
اجتماع ضخم عند الشيخ عامر كبير القرية ..... رعب ملأ القلوب ..... إنه اليوم الثاني على التوالي و الشمس لم تشرق ...... إنها كارثة بكل المقاييس .... توقفت الحياة في القرية و أطبق شبح الموت عليها .... الكل في بيته , لا يغادره .... فبعد إنهيار أكبر حقيقة وثقوا بها و اطمأنوا لها .... فالحاضر المجهول أصبح مخيفا جدا لدرجة أن الحياة لا تطاق .
أما اليوم الرابع فكان مختلفا ..... مر على القرية مجموعة من الشباب في رحلة صيد ...... و عندما رأوا أن النور لا يصل إلى القرية أيضا ..... أصروا على مقابلة الشيخ عامر .... و هناك قال أحدهم : يا شيخ .... لقد علمنا قبل سفرنا أن الشمس قد قررت منع نورها عن بعض البلاد حتى تتفاوض معهم ..... وهناك من استجاب لها و عاد إليهم النور من جديد .
نظر إليهم الشيخ عامر نظرة المصدوم و قال :" هل جننت يا بني ... ماذا تقول ؟ .... إن حديثك هذا أبعد ما يكون عن العقل ؟ "..... رد الشاب : " و هل ما يحدث الآن يوافق عقلك ..... أيها الشيخ العجوز انتهى زمن العقل ..... إن لم تصدقني فأرسل من قريتك من يتفاوض مع الشمس في جنوب الوادي .... هناك استقرت تنتظر الوفود" ....... نظر إليه الشيخ ثم قال :" يبدو أني مضطر إلى هذا".
و في اجتماع أهل القرية ناقشوا الأمر .... فقال أحدهم : " لكن من يذهب هناك .... هل نسيتم أن كل شباب القرية و رجالها الأقوياء سافروا في رحلة التجارة ..... و لن يعودوا قبل شهر من الآن .....و لا يستطيع أحد منا أن يسافر ..... فالطريق شاق طويل ..... يحتاج إلى شاب قوي " ....... و بعد لحظات صمت باردة قالت ابنة الشيخ عامر : " يا أبي لماذا لا تطلب من خالد أن يسافر ؟ " ..... نظر إليها الشيخ عامر و قال : " هذا مستحيل .... إن القرية كلها قررت مقاطعة خالد ..... و لا رجعة في هذا " ...... نظر إليه أهل القرية و كأنهم يستجدون منه الرفق بحالهم و التنازل عن موقفه مع خالد حتى لا ينتهي أمرهم جميعا .... فقال الشيخ : " فليكن ما تريدون ...... ولكني لن أطلب منه شيئا .... فليذهب إليه أحد غيري ".
و بعد أن ذهب إلى خالد وفد من القرية و طلبوا منه مخلصين أن يسامحهم على ما فعلوا ..... و أن ينقذهم مما هم فيه ..... و يذهب إلى جنوب الوادي..........وافق خالد متواضعا ..... فلم يكن ليتعالى على أهله و يساومهم على حياتهم و أرزاقهم ....و قرر السفر .... ما قيمة حياته في قريته مكروها مطرودا ؟ ..... لا بد أن يكون هذا هو الطريق ليستعيد حياته مرة أخرى.
أيام من الظلام عاشها في الطريق .... ظلام لم يكرهه أو يهابه ..... و كيف يكره صديقه أيام وحدته ؟ ..... و ملجأه إذا طرده الناس ..... ما مصير الأحزان معك إلا النسيان ؟ .... ولكن ساعاتي معك لحظات معدودة أتمسك بذكراها ....و لا أرى غيرها .
وصل خالد إلى جنوب الوادي ..... المئات قد حضروا من كل مكان في جمع رهيب .... الكل يقدم فروض الطاعة ..... حتى جاء دوره ....و وقف أمام الشمس المتمردة فقالت : و أنت من تمثل ؟ .
فرد خالد : أنا من قرية الشيخ عامر.... لكن قولي أولا ماذا حدث .... كيف تمنعي عنا نورك ...... أنت يا رمز العطاء .... ماذا تريدين ؟
قالت الشمس : يجب أن تعلم أولا أن لي مطالب لن أتنازل عنها ..... حتى يعود نوري إليكم .... و هي كالتالي .....
قاطعها خالد : ما هذا ؟ .... لا اصدق ما أسمع .... من علمك هذا ؟ .... منذ ان خلقك الله و انت تشرقين كل يوم ... تجلبين معك الحياة ... دون أجر أو ثمن .
ردت الشمس : تعلمت منكم ....... مئات السنين ... أشرق ... فتشرق الدنيا ... و لكن تعلمت أن لكل عمل مقابل ...... و عملي أنا أهم الأعمال .
قال خالد : لا تتوقعي مني أن أقبل شروطك التي لن أسمعها .... إن النور الذي تأتين به فتسري الروح في الجسد .... وتستيقظ الحياة ..... إن كان نورا مشروطا بمقابل فلا قيمة له .... تكوني قد أخذت معك في غروبك أسمى معاني الدنيا التي نتحمل الحياة من أجلها .... إن فعلت ما تريدين ستشرقين ليلا لا نهارا ..... فبعد هذا سيصبح النور في وجودك ظلام .... والبيوت قبور.
قالت الشمس : هل هذا هو رأي قومك أيضا ؟ ..... تذكر أنك الآن تتخذ قرارا يتعلق بمصائرهم جميعا .
رد خالد : لا أعرف .... و لا يهمني أن أعرف ..... سأذهب إليهم لأخبرهم..... ربما أرادوا شروقك .... سأغيب عنك الآن .... و أرجو أن تغيبي عني أبدا.
مصطفى جبر
منقول
موضوع: ""شروق الليل"" ... 
السبت أكتوبر 25, 2008 1:33 pm
