الحلـــم الأول
تَعتصرُ أفكاري ذكرياتي كي تسيل خاليةً من الشوائب....... وتسقط على شكل قطرات ... في كل قطرةٍ رواية من عشرة أجزاء
أمدُ يدي لتستقبلها .... فتختلط مكونة مسلسلاً مكسيكيا.
أجلسُ مستعداً للمتابعة ...
أول حلقةٍ تُفتتحُ بابتسامة ... تتلاشى شيئاً فشيئاً مع توالي الحلقات, لتولد الدمعة وتعتصر الأفكارُ الذكريات من جديد ......
فأمسح راحتي ... وأنهض ركضاً
تتسارع دقات قلبي وتعلو اللهثات ، أتجنبــ الطرق الرئيسية وألوذ هرباً للممرات.
أقف متكئاً على ركبتي ... تعباً ، ومآ زالت عملية العصر قيد التنفيذ.
سبحانك ربـــي ... جسدٌ منهكا.. وأنفاسٌ متقطعة ،والعقل في كآمل قواه .
أكمل الطريق سيراً .... متوجهاً نحو مقهى على رصيفْ. لتستقر بي خطآي على إحدى طاولاته ، يستوطن أختها فنجان قهوةٍ ما زال بخار الحرارة يتصاعد منه ، والكرسي فارغ ....
مرت الدقائق ... وأتت شقيقاتها ... والفراغ سيد الموقف
التفتُّ من حولي .. لا أحد
فانتقلت عَجِلاً للطاولة ، والتّقطتُ فنجان القهوة... لتنطلق رحلة السفر من على الطاولة إلى فمي .
قبل نقطة النهاية بلحظات.........!
ضحكات تعالت، وأناس ظهروا مرةً واحدة كأنهم نبات شق الأرض معتلياً بفعل معجزة، فاقترب أحدهم يصطحبه مُصور
وبكل وقاحة قال : ( معك الكاميرا الخفية هههههههه )
نظـرتُ إليه شارد الذهن... ( فعملية العصر لازلت قآئمة )
ومع عدمِ اكتراثي لمآ قال ، قَتلتْ ابتسامته الغرابة، فتراجع إلى الخلف ساحباً معه المصور هامساً له (دعك من هذه اللقطة لن ننشرها) ، هنآ ابتسمت من دون إرادتي ... لاحظ المذيع ما كان ... وتقدم إلى الأمام ،فعدت عبساً ،
وعاد حيثما كان ، أدرتــُ وجهي مخبئاً طيشَ ابتسامتي ...
وعملية العصر مستمرة ..... والفنجان لم يحرك ساكناً بين أصابعي ،
تلاشى البخار ... وبردت القهوة ... فعادت أدراجها لتحط مرة أخرى على الطاولة ....
أنهض متجاهلا مَن حولي من عيونٍ مرتقبة كثُرَ هرجها وتنوعت تساؤلاتها،
وأكمل مسيري الفاقد للهوية، والعصر كما هو على حاله.
على مفترق طرق ... والإشارة حمراء ... تقابلني شارة أخرى خضراء ليست ملكي ، بجانبها فتاة ألهتها مكالمة على جوالها فلم تنتبه لحق الأولوية.
أصارع الاعتصار وضجيج السيارات وأسأل الله أن يُطيلَ الذي يُكلمها الحديثْ، فوا لله تستحق النظر والتمعن .
أنهتْ المكالمة .. ونَظَرتْ للإشارة .. مع تحريك لقدميها نحو خط المشاة،
حينها سمح لي التفكير بإنجاب حلم ، فسارت نحوي مبتسمة فاتحة ذراعيها بثوبٍ مزركشٍ يرسم جسدها ،أنفاسها تسبقها لتجول جسدي في رحلة إياب وذهاب ، لتعود إليها مخّبرةً إياها مدى شغفي ولهفتي لوصولها
ما أن وصلت حتى قالت ( لو سمحت أفسح )......!!
استأنف العقل عملية العصر من جديد ... والإشارة سخرت قائلة ( تستطيع الانصراف ).
تأخر الوقــت ..... ويجب علي العودة إلى البيت
فمن على المكان الذي كانت تدوسهُ الحسناء وقفتْ، أشرت لسيارة أجرة ،رَكَنَتْ جانباً لأستقلها.
يا محاسن الصدف!
قلة صبرها..... وملل الانتظار... جعلها تستعجل القدر وتستبق الساعات ،
لتقابل نفس السيارة في موقف آخر ..... وها هو القدر يعيدها... لتكون بقربي إلى جانبي، فاستحلف الفكر ليهبني حلماً جديد....
وبنفس ذلك الثوب المزركش ... تضع رأسها على كتفي لتغفو، وترقد يدها حاضنة ذراعي ، ويدي الأخرى تجول خصل شعرها مترنمةً.
مطبٌ حقيرٌ يوقظني طاردا الحلم، ليهجرني شاتما ذاتي وعدم احترامي واستغلالي له.
استنفرت الفتاة متقمصة دور المعَّنِف كلبؤةٍ ضُرَّ شبلها فاستوحشت ، قائلة للسائق ( توقف ، أنزلني هنآ ، الناس ما عادت تخجل ).
احمر وجهي خجلاً واصفر جلدي خوفاً .!
لم أدري ما العمل... ما ذا أفعل ....؟!
استسلمت لفكري .... ووهَبتهُ نفسي لأكون أحد العاملين في معصرته.!
......................
جسدٌ مترهل مفتقر الأعصاب، وعيون مفتوحة.....
وصفٌ بسيط لغيبوبةٍ سلبت للجسد حركته وأذلت الروح بأن تركت للنظر مُبصرَه، وقد زاد الذل حرقةً ترّبط اللسان وتعقّده.
وفوق كل ذلك لم يكترث التفكير بمآ حل للجسد وبقي دؤوباً في عمله.
العيــن تتحدث: أياد تلطم وجهه، والإجابة لاشيء، شفاه تتحرك صامتة، وسواعد تهزّ جسده بقصد المساعدة.
ضوءٌ أحمر ما يبلث أن يطل حتى يغيب ثانية ، ويعيد الضوء الإطلالة والغياب مراتٍ و مرات .
سماعةٌ على صدره ويدٌ على رقبته، أعتقد أنه مسعف لبى النداء. ظهر آخر ليقابله ويباشرا في نقل الجسد إلى سيارة الإسعاف.
تصمت العين، وتمر الأيام والأشهر، مختصرين في حديثنا غرفة الإنعاش وجلسات العلاج الطبيعي وما تخللهما من أمور ومجريات.
أقبعُ وأفكاري في غرفةٍ منزوية، لا أملك فيها إلا سريري الذي ليس لي الحق في أن آخذ من مساحته أكثر مما يغطيه جسدي منه.
صرخةٌ أيقظتني ، أفتح عيناي لأرى أمي وقد بان عليها الغضب لعدم سماعي لها من أول مرةٍ قامت بمناداتي بها ، فتلاشى الحلم.
نهضت جالساً على طرف السرير، أستجمع أفكاري وأحاول تذكر تفاصيل الحلم، لم تجدي محاولاتي نفعاً، فما زلت أمي غاضبة متذمرة توبخني وتلقي علي النصائح.
فتعكر صفو مزاجي واختلطت الأمور علي ، فهززت الرأس معلناً تجاهلي لما كان.