جريت وسط عواصف الطرقات لأجد نفسي ملقى بجانب شريط سكة حديد في طرف المدينة ..
وجدت بجانبي قلم و ورقة . من صاحبهم بالتأكيد لا أعرفه و لم بخطر ببالي أن أسأل . أمسكت الورقة و القلم كان لدي الاختيار و كان الاختيار إما أن أكتب و إما أن أرسم و كالعادة و لحيرتي الملازمة لي كما يلازم التراب رياح الخماسين قد اخترت أن أكتب و أرسم معا فلا خلاق لي على هذا و لا ذاك و لكني مجبر ..
عمود الإنارة من فوقي هو مصدري الوحيد للرؤية وسط غيابات الظلام التي تكتنف المكان .. سقط نوره على الورق فأعطاه لون أصفر حزين فرسمت على إثره وجه طفل رأيته صباحا , بدايته كانت أنف صغير مهشم تسيل منه دماء سوداء تنسال إلى فمه المليء بالشقوق الذي يتمايل و يتراقص ألما و حزنا لما ألم به من جراء الضرب الذي يتعرض له .. نبشتُ في ذاكرتي حتى تذكرت تلك العين الباكية كانت شديدة الاحمرار , لونها الطبيعي غارق في عالم من صمت و حزن , شفقٌ يضم حدقة عينه و يغرب بها.. أغلق عينه فسالت منها الدموع بغزارة فرسمتْ وجنته الصفراء الشاحبة بكل ملامح وهنه .
طفح بي الكيل من رسم تلك الملامح البائسة . فقررت أن أكتب الكلمة التي يريد أن يقولها و من هنا استرجعت ذاكرة ملاحظاتي عليه لعلي أتذكر ...
صباحا كالمعتاد أمر عليه في طريقي و هو يمسح بلاط أرضية محل السمك على ناصية الشارع . أجده بنفس اللبس الكئيب الغامق الذي يلبسه .. البلوفر الأزرق الغامق المهلهل المليء بالثقوب من أثر دموعها عليه ,, البنطلون البني الممزق من عند ركبته , حافي القدم .
في هذا الصباح أخطئ فأوقع صندوق مليء بالسمك على أرضية المحل العتيق , فقام معلمه و كالعادة لن يكون له من سبات اليوم إلا بعد أن يهينه كالمعتاد فصرخ في وجهه بكلمات أهملت سماعها لاهتمامي بملامح هذا الطفل المسكين و هو مشدود من شعره الأسود الناعم و يمُسح به المكان و بمجرد قيامه أمسكه هذا الغير آدمي ذو الشارب الكثيف و الملامح العكرة مجددا .. عيناه يكثر فيهما الشر و يفيض , صفعه أكثر من مرة على وجنته الضعيفة . سقط على الأرض مثلما أسقط صندوق السمك يتناثر . توارى عن الأنظار في ركن و واصل البكاء و أخذ بيده يحفر في الطين المتجمع بجانب هذا العمود على حدود المحل و لمحت نتاج حفره من قريب .
نشبت كلمته في ذاكرتي فانتفضت و أمسكت قلمي مجددا و كتبت بجانب رسمته " أنا مش عايز أعيش "
نظرت للرسمة بشفقة تبعتها نظرة عدم رضاء
---------------------------------------------------------------
" الوقت انتهى "
قالها المراقب الذي يشرف علينا بصوته الغليظ فانتزعني من مكاني ,
مسرعا أعطيت له ورقة رسمي يزينها عمود الإنارة بجوار السكة الحديد و رسمته
هرعت للخارج و ذهبت في طريق عودتي للبيت مررت بجوار محل السمك لأرى ماذا حدث له فوجدته مجددا يحفر في الطين
********************
منقول