و)
وقف على ميناء تبوك, يراقب شمس المغيب الباكية, وهي تودع السفن والمسافرين, يتأمل ويفكر" رحلت بدون حتى أن أودعك.. تركتني هنا وحدي أصارع الآلام والأحزان .. تركتني سنين وأنا أبحث عنك في وجه كل قادم .. عن ابتسامتك اللطيفة .. عن وجهك الصباحي ونظرتك العميقة.. أين أنت الآن .. ماذا تفعل يا ترى في هذه اللحظة .. أتراك بخير ؟؟ أتراك حي أم ميت !؟؟".
ظل وهو على هذه الحال, مستسلما للذكريات التي تسري في دمه كالخناجر, تقطع كل وريد في جسده, حتى سمع صوتها ورآها تتهادى بشعرها الذي لفته بحجاب صغير:
- أخي .. أخي.
- نعم يا صغيرتي الحلوة.
- أي .. أنننن .. أمي..
أحاطها بردائه وقال:
استريحي قليلا , أنـت دائما مستعجلة.
أخذت نفسا عميقا , وقالت بلثغتها الجميلة:
"أمي تنتدرك, وتقول احدر معك خبدا للعتاء".
قال لها وهو يبتسم :
سأحضره بعد الصلاة إن شاء الله .
- لا تتأخل فابنتي أيدا دائعة.
- حسنا ..حسنا, قالها وهو يحاول أن يكتم ضحكه, ثم أضاف:" اذهبي, فقد تكون ابنتك استيقظت"
انتبهت الصغيرة وولت راكضة, و تمتم هو بشفتيه (( تفاحة البيت )).
***
أخذت خطاه تغوص في أعماق ذاكرته و ذكرياته, كلما خطا خطوة وهو ذاهب إلى الخباز بعد أن أدى الصلاة, فهو عائش فيها و بها:
- السلام عليكم يا عم أبو وليد خمسة أرغفة لو سمحت.
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته أهلا خالد تفضل أفضل أرغفة من أفضل خباز, طازجة من الفرن مباشرة.
- شكرا لك يبدو أنني سأعلقها لوحات في بيتنا من روعتها.
- بالهناء والعافية.
"أرغفته إنها ساخنة دافئة, تملأني بالحنين في هذا البرد كم تمنيت وجودك الآن في هذا الوقت يا عبدالرحمن فرائحة ذكرياتنا ينشر عبقها الشتاء في كل مكان وكل طريق.. تكاد تقتلني ذكراك الحية فيَّ".
انطلق مسرع الخطى في الشارع الضيق, الذي بدأت مصابيحه بالاستيقاظ متأخرة, نظر إلى كتفه الأيمن, لقد غفت ندفة ثلج على معطفه, (إنه الصقيع الشمالي, لقد حلّ سريعا). لم يسعه إلا أن يضم أرغفته إلى جسده؛ ليمنع رعشة بدأت بالسريان في أضلاعه.
***
فتح باب منزله وهو ينادي:
السلام عليكم لقد وصل.. وقبل أن ينطق آخر حرف من كلماته, لم ينتبه إلا وأرغفة الخبز قد خطفت من بين يديه, والسارقة الصغيرة تغني:
( تلج, تلج, تلج.. ملج, ملج, ملج )
ابتسم قلبه, وقال:
- لن تطير الأرغفة أيتها الفراشة الطائرة.
- ابنتي تكاد تموت من الدوع.
قالتها الصغيرة وهي منطلقة لصالة الطعام.
سلم على أمه وقبل رأسها,وبصوت مبحوح يكاد أن لا يصل مسمعيه قالت له:
أهلا بني كل مما قسم الله.
- أمي, هل تناولت الدواء؟.
- بعد العشاء سأتناوله إن شاء الله.
- حسنا سأحضره لك.
- استرح ستحضره رحيل.
"لقد بدأت تتحول إلى هيكل, فصحتها تتدهور, ليتني أستطيع أن أعالجها في مستشفى كبير موثوق, فقد مللنا من أناس لا يعرفون عملهم, ولا يؤدونه كما يجب, وخصوصا بمواعيدهم المتأخرة, وأسرتهم الدائمة الامتلاء بالنسبة لهم ".. قطع دوامات تفكيره قبل أن تكبر طرقات سريعة وخفيفة على الباب:
- أهلا شهد أدخلي
دخلت فتاة صغيرة بسرعة وهي تحمل بين يديها دمية وهي تصرخ:
- لحيييييل التلج يتساقط
- نعم, لقد لأيته إنه لااااائع.
نظرت الطفلتان من النافذة للبياض المتكون على الطرقات, كان الثلج يتساقط بطيئا حزينا كأنه يأتي من الماضي ليعزف أعزوفة النقاء الجميلة.
- هل تعلفين يا شهد, ابنتي مليضة. قالتها رحيل وهي تحمل دميتها بين يديها الصغيرتين
- هلاّ عالجتها بالمثتثفى؟.
- حاولت, ولكن ملضها سديد, وتحتاج عملية مثتعدلة, وليس عندنا واتطة لتقديم المواعيد.
أمالت شهد رأسها قليلا و نظرت لها نظرة شفقة, وقالت:
شفاها الله.
كان خالد يراقب الطفلتين وحديثهما وهو يتمتم باستهزاء:
"واسطة.. هه, العلاج واسطة .. الوظيفة واسطة, حتى الواسطة تحتاج واسطة!.
مهزلة انه لأمر مضحك مبكي, هذا الذي يحدث, لا احد يستطيع أن يحصل عليها إلا من كانت عائلته ثرية, وذات مناصب عالية.. يحصل عليها لا لحاجة ولكن ليفتخر فقط بتلك القوة".
"سافر أخي ليبحث عن تلك الواسطة, وأخذ معه كل ما جمعنا من مال, ليبقينا ننتظر بصبر ما تفعل تلك الكلمة السحرية التي وعده بها صديقه. له ثلاثة أشهر الآن وهو يبحث عنها من دون خريطة, عسى أن يجدها ولو صدفة".
"صديقه توظف, ولكن بدونه, لأن واسطته لم تكفي إلا له أمام تزاحم الواسطات الأخرى, ولم يعد أخي, فقد توظف بوظيفة تكاد تكفي حاجته بتلك المدينة البعيدة, بانتظار أن يجد أفضل منها .. حتى مكالماته أصبحت قليلة واضطر أن يبيع جواله الأثري الذي يسمى (العنيد)".
"كم هو مسكين, يحاول أن لا يخيب ظننا به, وأن يواجه استهزاء أقاربنا منه, وكلماتهم القاسية في وجهه.
لن أنس نبرات صوته وهو يقول بثقة لي: (لا يغرنك كلام الناس, ولمزاتهم, وحسدهم لك, بل اجعل ذلك تدريبا لك وتجربة على الصبر ومواجهة الحياة)".
"الصبر الذي أصبح رفيقا جديدا لنا مع الفقر, لم يواجها مشقة للعيش معنا فاعتدنا عليهما, إننا نشعر أننا لا نستطيع العيش بدونهما, كم أتمنى أن يصنع لهما يوم ليس كالأيام الكثيرة, والأعياد المقيتة المحرمة التي يحتفلون بها هذه الأيام, ليجرب الناس مهانة الحرمان ومذلة الحاجة, يوم للفقر يلبس فيه الناس الملابس القشيبة, ويأكلون الخبز مع الماء فقط, يحرم فيه الأطفال والنساء من الكماليات والألعاب الثمينة. يوم واحد فقط ولا يكرر بعده, يتذوقون فيه الألم مجانا بلا ثمن.. يصبح فيه الناس سواسية , يتوجعون نفس الوجع, ويعيشون نفس المعيشة, لا يشعرون بالفرق بينهم في أي شيء, عندها يزول الغرور والكبر والحسد, وتسود المحبة والعطف والأخوة, ويزداد الترابط و ينشأ الوئام, وحينها قد يبحث الشيطان عن واسطة, ليجد وظيفة بيننا في ذلك اليوم!".
وهو على تفكيره الخيالي الطويل, حاول إشعال موقده الصغير, الذي لا يوجد به سوى الرماد, وبعد محاولات يائسة عديدة لإشعاله, قرر التوقف, فلا فائدة من خسارة المزيد من أعواد الكبريت في مقبرتها.
***
- خالد, خالد ألا تدمع؟!.
- ماذا هناك ؟!! قالها وهو ينظر لأخته في ذهول
مدت يدها بمظروف إليه وقالت:
- لقد أعطاني ابن جيلاننا هده اللسالة, وهو يقول أنها من أخي عبداللحمن.
فتحها .. وقلبه يطرق طرقات سريعة على صدره, كأنه ينتظر أن يُفتح له مع فتحه للرسالة ليجد مسارا جديدا للهرب من جسده الحزين.
قرأها بتمعن واستغراب, وركز نظراته فيها على ذلك السطر, الذي بدت له أن حروفه تحترق, وأن دخانها بدأ بكتم أنفاسه, "أبشرك, لقد وجدت واسطة, تسمح لي بالابتعاث إلى النيجر, نعم النيجر من يصدق ذلك!, الدولة المتقدمة لا غيرها, والدراسة هناك على حساب إحدى الشركات, لأحصل بعدها على وظيفة بها, تنسينا تعب الأيام الماضية".
أخوك الذي يحبك عبدالرحمن
الاثنين 23/9/2018
دمعت عينيه مع شفتيه بكلمات مرتعشة:
- ما هذه الواسطة التي تبعد الأحباب ولا تقربهم؟!.
رمى بأوراق الرسالة, ونظر إلى موقده الميت, الذي أصبح حيا بها!.
منقول