"" هواجس """ ...قصة قصيرة

" هواجس " ... قصة قصيرة



لم أكتب يوماً مذكراتى ، وجدتها فكرة غبية لا يقوم بها سوى الحمقى وغرباء الأطوار ، يدونون أشياء كثيرة تافه مدعين أهميتها . منتهى السخف أن أكتب عن الأيام المتشابهة التى تزورنى ، أستيقظ نهاراً وأنام ليلاً ، لا شىء جديد للكتابة عنه .
هل مشاكلنا تستحق الكتابة عنها ؟! أثق أن الأفضل نسيانها كى نظل على قيد الحياة !
أتناسى أشياءً كثيرة .. أظن أننى نجحت فى نسيانها ، فى دفنها فى قبر مظلم ..فى ليل كئيب ..
ولكنى وجدتنى فى القبر معها ..وفى الليل ..وذات الظلام الكئيب !


***

اليوم الأول / بتاريخ لم يؤرخ بعد !

أسير بخطوات أظنها ثابتة ، أنظر حولى فأرى الجميع يسيرون متجاهلون وجودي ، أتأكد من ملابسى الغريبة عنى وعن ملابس أهل بلدتى التى بدلتها فى محاولة منى أن أتشبه بأهل المدينة . أتأكد من وضعية نظارتى الشمسية بحركة لا أرادية تعودت عليها . يمر الجميع من حولى بخطوات أكثر ثباتاً ، ألاحظ أن الجميع لا يرتدون نظارات عكسى! وأن الشمس فى الأصل غائبة !
أشعر بحركتى تتثاقل ، وبتوازنى يختل ، أكاد أسقط ..
أنظر أسفلى فأجدنى أسير فوق أمتداد لا نهائى من الفراغ ، أستند على العدم كعكاز وأسير !
بينما الجميع يسيرون فوق الطريق !



***

بدأت أقوم بعدة أمور غريبة عنى وأكثر غرابة من كتابة مذكرات المساء . بدأت ألعب رياضة التأمل ، قرأت فى عدة كتب أن عقل الأنسان يحمل الكثير من الأفكار السلبية وأن سبيلى للتخلص منها عن طريق رياضة روحية تقوم على التأمل الداخلى والتركيز الشديد لكى يصل إلى حالة النقاء الذهنى التى يُبغى الوصول إليها ؛ أو يُحلم بها ..فقط يُحلم بها !
بعد عدة أيام من التأمل فى الطبيعة ، والانصات لأغانى العصافير والبحث عن قوس قزح خلف أحجار المدنية التى تسجنى.. شعرت أننى أفشل .
حتى الأمطار التى كانت تسقط بين الحين والأخر أجدنى شارداً عنها فى صراخ الرعد وغضب البرق !
أخذنى يأسى لفكرة مجنونة لم أقم بها سوى مرة واحدة ، وضعت قدميّ موضع رأسى ، شعرت بصداع رهيب ..فارت خلايا مخى ، لم أستحمل إنقلاب جسدى سوى ثلاثة دقائق _ وربما أكون مبالغاً فى المدة محاولةً منى لمقاومة اليأس ...
أحاول النوم ، يحاربنى بواسطة الهواجس لا الكوابيس ! أفتح عيني ..و أكتب ما أشعر به .


***

اليوم الثانى / كانت الدماء كثيرة !

كُنتُ أحاول أن أتحكم فى هواجسى ..ولم أفكر أن أمنعها ! كُنتُ أدرك قوتها وضعفى !
اليوم حاولت أن أختار الزمان والمكان الذى أريد أن أكون فيه !
أخترت بستان جميل ، الزهور والعبير والسماء الملونة بالتفاؤل ، وبعض العصافير وبعض الفراشات !
شعرت بقوتى ..
ولم ألبث ثوانى حتى وجدت من يحرق البستان ومن يغتال العصافير ومن يجلد الفرشات !
ومن يحاول قتل السماء ..ومن يحاول قتل السماء !




***

لم أفعل شيئاً اليوم ، فقط شاهدت التلفاز قليلاً .
أجلس فوق أريكتى المريحة ، أتابع مسرحية هزلية ..
يرهقنى الجلوس ، أنهض ، أفكر أن أعيد إنقلاب جسدى ، أتذكر الألم وفوران المخ !
أتساءل : ولم أقلب جسدى ؟! أشعر أنه مقلوباً بالفعل !



***


اليوم الثالث / ربما هناك مشكلة بالفعل !

رغم شعورى بكل شىء ، بفراشى البارد ، بالضوءِ الخافت المتسلل لغرفتى ، وبإرهاق جسدي وروحي .
إلا أن هناك شيئاً ما فى شعورى مُخدر تماماً ، أسمع ضحكات ..ضائعة ..
ومن بين الضحكات ضحكتى ..
وتخيفنى !




***

بعد الأستيقاظ أجد عقلى فى قمة أدراكه ! لا تتجه مخيلتى يميناً ويساراً دون إذن منى ؛ عكس الليل !
أفكر أن أفكر فى هواجس أمسي . تلك الضحكات العابثة ، التائهة ، المحزنة . ضحكات كالحزن وإن إدعت السعادة !
أى حقبة زمنية تمتلكها ! لى الكثير من الخطايا ، حالى كحال الجميع . أنتبه إلى الأختلاف بينى وبينهم ..هم يمتلكون عقولهم أثناء الليل ..لا تزورهم هواجس كهواجسى ! أمسك قلمى ، لعلنى أصل يوماً مع أستمرار الكتابة إلى تشخيص داءى ..
أفكر أن أفكر ، هل حقاً بعض الهواجس التى تأتينى خارج نومى تستحق كل هذا الأهتمام ؟! لم علىّ التعامل معى على أننى مريض لمجرد هواجس بسيطة ؟
ربما لم تكن هواجسى سوى الـ لا شىء ، أو لو لم تكن شيئاً وأهتممت بها..يكون دليل مرضى !
أفكر أن أفكر ، ألعن التفكير ، أريد النوم ، بلا أشباح تخيفنى !


***

اليوم الرابع / الغريب أننى لا تزورنى كوابيس !

أغمض عينى ، ولا أنام ، ولا أحلم ؛ أرقد فى قمة وعيى . لو إفترضتُ أن هواجسى أصبحت جزءاً لا يتجزأ من وعي !
أرى أمامى جماجم ودماء وهياكل عظمية وأشلاء فوق أرض نصف مُدمرة ..
أشعر بالخوف ، يطمئنى مجيئه لو لم يأتِ لأدركت أن هناك شيئاً غير طبيعياً !
يخرج شيئاً من بين العظام يشبه الميت الحي! ، يقترب منى حتى يكاد يخترق الخط الغير مرئى الفاصل بين الوهم والواقع !
أفتح عينى ، أراه يقترب بثقة صوبى !
أفكر فى شيئاً أخر ، أجد رجلاً_ لا أتذكره ولكن ملامحه قابلتى يوماً_يحتضر !
يتغير لون وجهه إلى اللون المزرق ؛ يشبه كل الميتين أثناء موتهم !
أتجاهل كل هذا ، أقول فى سرى وعلى ورقتى .. سأنام ..سأنام ..سأنام !




***

مرت أيام كثيرة ، والأوراق البيضاء يسحرها الحبر الأسود . ولا أذال أبحث عن مشكلتى . أفكر أحياناً .
أتبع المنهج العلمى ، أحاول تحديد المشكلة ، توسوس لى نفسى كثيرة بأنى نسيتُ شيئاً ..أو تناسيته فَتّمَ لعنى !
ولكنى أضحك ... ففكرة اللعنات بعيدة عن التفكير العلمى !
وأتسائل : وهل هواجسنا يُمكن أخضاعها للتحليل العلمى ؟!
وأعود لوسوستى : ومن الذى لعنى ؟!
ثم أتذكر حاجتى للنوم !


***


االيوم الـ (..) / ربما كان النسيان خطيئتى !

هذا المساء كانت الرحلة عجيبة و مختلفة ، كان الظلام هو المسيطر على الظلام !
أحاول بعينى أختراق جدران الظلمة ، أقلب صفحات الظلام صفحة تلو الأخرى ، فيزداد الكون ظلاماً ..
سألت نفسى : أين أنا ؟!
رأيت بعض ذرات تراب تتساقط ، وبصيص ضوء قادم من أعلى ..وأناس مسؤولين عن دفنى !
صرختُ متعجباً : ولكنى لست ميتاً ..
يا ناس تدفنون حي ..!
تدفنون حي ..!




***

اليوم الـ (...) / سأحاربكِ أيتها الهواجس ..سأحاربكِ !

كُنتُ اليوم مصلوباً ، إناس كثيرة تجلدنى ..
بعد أن حطموا ضلوعى سمعت بعض المجانين يهمسون من حولى : لقد صُلب لأجلنا ! لأجل أن يفدينا !
همس أحدهم : رغم أنه لم يكن يريد مملكة !
أجابه أخر : نعم كانت مملكته روحية !
وأنا أتألم ..والدماء تسيل من جسدى ..صرخت : أيها الحمقى ..لم تكن المملكة روحية !
وكُنت أريد وطناً ..ومملكةً قوية ..
ولكن لم يسمعنى أحد ..أبداً لم يسمعنى !



***

اليوم الـ (.....) / بدأت اتأقلم مع الوضع !


***

اليوم الـ (............) / اصبحت هواجسى ممتعة !





(تمت)
مصطفى الشيمى
منقول